مقدمة جبل السلوم بقرية النشارين

Page 1 contenu

مقدمة جبل السلوم بقرية النشارين(5): الارجل المعدودة الاخيرة لاشجار البلوط يغالبون بمعجزة النزع الاخير لتاريخهم.
كان النهار قد مر منه نصفه او يزيد قليلا، وبقي من الطريق أقله الى قرية النشارين، عندما استمرأت، باحساس عذب غامر بالحنين والشوق الى حال كان يوما ما، جلسة القرفصاء على كدية تطل على جرف مقعر نحو الشمال في الانعطافة الحادة لفاتحة جبل السلوم. إنه الجرف الحاد والخطير للمكان المسمى * باب د حافة*، اسفله يشق واد السلوم طريقه الى مصبه في الضفة اليمنى لواد لكوس. طاب لي المقام بعض الوقت واسترخت العضلات وهدأت النفس وطافت سحابة محملة من ذكريات الماضي حول ذهني. إن الذكريات ككرة ثلج، بعضها يستجلب البعض الاخر. هدوء المكان لا يقطعه، بين الحين والاخر، الا ازيز محركات السيارات القليلة أو صوت بندقيات الصيد لصيادين يصطادون الحجل او ثغاء الماعز ...
في الشرفة الطبيعية الرائعة هبت علي نسمات عامرة بعبير مختلط من رائحة بعض النباتات المزهرة النامية في المكان. نسمات باردة طرشت محياي فأزالت تعب الطريق عني وجففت العرق الراشح من مسام جلدي وأنعشت ذاكرتي وتركيزي. ارخيت غارب بصري ليسرح في حقول الزيتون المتكيفة بشكل جيد على العيش في المنحدرات الحادة قبالتي. حقول مترامية الأطراف كأنها بحر لا شاطئ لها. بعض اشجار الخروب المتفردة بلون اوراقها الشديدة الاخضرار وطلعها المختلف عن الاشجار الاخرى تؤثث المنظر العام، كأنها بقع فطرية متفرقة على جلد. قاع الوادي تناثرت فيه برك ماء صغيرة تربطهم، بين مقطع واخر، جدول نحيل دقيق، لا يجري ماؤها فيفيض ولا يغور ماؤها فيقطع الوصل بين البرك. نحو أسفل الوادي، يتكون جدول ماء يسمع خرير مياهه من على مسافة ليست ببعيدة يغذيه نبع ماء منبجس من تحت صخرة اسفل يمين جبل السلوم. ان الجدول النحيل يرسل درسا لكل ناظر اليه متأملا فيه وكأني به يقول : الأشياء المتماثلة المستمرة المتعرضة لغوائل الزمان، تنفصل عن بعضها البعض ويبقى وصلها من جنسها دقيقا. اسقاطا على الحالة الاجتماعية، فالألفة والمودة مهما كانتا باهتتان مع الارحام والأصدقاء مفروض بقاؤها، فمع أضعف زخة تراحم تعود مياه المحبة الى سابق عهدها. إن صيبا من المطر الخفيف المنهمر انهار الديمة، يجعل البرك عامرة ماء فتستعرض وتعمق الجداول فتربط البرك المتباعدة مع بعضها البعض وتغدو صفحة ماء واحدة تنساب بهدوء نحو منحاها الطبيعي نحو المصب.
شد انتباهي أزهار النبتة العطرية الصغيرة والشديدة الاصفرار * تركلان* المنتشرة بكثرة حذاء الوادي وبجنبات الطريق. تركلان، واحدة من بين النباتات القليلة المزهرة في اخر الصيف، رحيق ازهارها المغدق ،يجتذب اليه اسراب النحل، الذي يحدث طنينا ودويا اشبه بنغمة موسيقية مطربة لاذان كل ماش بجوارها. بترت ساقا من احداهن وتشممت رائحتها. هيجت رائحتها المزفرة المستقبلات الحسية الشمية لانفي، فتعرفت ذاكرتي العطرية عليها مرغمة إياي عن اشاحة وجهي عنها في المنحى المعاكس لهبوب نسيم المكان. أبعدت *تركلان** عن وجهي ليقع بصري على نبتة ** صلاح الانظار** فطاف بذهني الماضي الزاهر لواد السلوم. في الزمن الماضي، كانت الامطار غزيرة وفصل الشتاء يغرق الارض ماء، فيملأ اوديتها وتفور العيون في كل الامكنة. يؤمئذ، كان السيل المائي الجارف لواد السلوم يربد طميه في ضفتيه ويوسع مجراه ويعمق عمق اخاديده.
وقتئذ، بعد أن تنقضي الايام المطيرة ويقبل الربيع بازهاره وبجوه الرائع ويهدئ الوادي من غضبه؛ يصبح ماء واد السلوم الصافي الرقراق العذب والشفاف، عاجا بحركة زعانف بعض الاسماك النهرية اللذيذة الشهية لحمها.
بعد ان تعجزهم سرعة انفلات الاسماك من اصطيادها، كان سكان القرى المحاذية لواد السلوم يلجؤون لحيلة لطيفة بارعة. لطالما حلت الحيلة مصاعب الحياة. بعد اختيار بركة ماء كبيرة، يحصرون ماءها على شكل سد صغير ،ويجمعون نبتة كنكيل ويفرمون ازهازها واوراقها ثم يقذفون بها في البركة. بعد القيام بتحريك نبتة كنكيل في البركة، تفرز موادها المخدرة مصيبة الجهاز العصبي للاسماك بالعطل. مواد ثؤثر بشكل كبير على القدرة الادراكية والاستشعارية للاسماك، فتبطئ سباحتها وتثقل قدرتها على الحركة والهرب من الايادي المتعقبة لها، فيسهل بذلك صيدها. طريقة صيد الاسماك البسيطة هاته،تؤشر على مدى المعرفة العميقة، لبعض اهل الخبرة والتجربة في الحياة من سكان المنطقة، باهمية النباتات المستوطنة للمنطقة واستعمالاتها المختلفة في أصعدة متعددة.درت يمينا بزواية حادة فلاحت لي شجرة البلوط المتميزة بهيئتها الخارجية الخاصة وارواقها الشديدة الاخصرار أعلى سفح حاد حديث التكوين. هذا السفح احدثته جرافات انشاء الطريق سنة 2011.
شجرة البلوط الشامخة تلك، المنغرسة جدروها، لمئات السنيين، في طبقات الارض، صمدت بعناد قوي، ولا زالت تقاوم بكل الوسائل تزواج قساوة الظروف الطبيعية والبشرية. يقطعون فروعها فتخلفهم بفروع اخرى، يجهزون على اوراقها فتخلق اوراق اخرى، يتعبها الرعي الجائر فتطرح براعم جديدة معوضة اخواتها المرعيات. لم تزل تلقي ثمارها الناضجة في الاغصان العالية كل فصل خريف. اغصان لا تصل اليها ادوات القطع الاثمة ولا تقوى العنزات على الوصول اليها. شجرة تكافح الظروف من حولها متحملة جور وعداء من حولها. تشتكي لطوب الارض من الذين يحاولون، بغير وعي منهم بقيمتها، الاجهاز النهائي عليها. تصرخ بصوت غير مسموع وتذرف العبرات من مسمات اوراقها ولحاء فروعها وتطلب دفع ضربات المديات عنها وتستجدي الرحمة بها من كل عابر للمكان او زائر له. لسان حالها يقول : هلا ابقيتموني حتى ابقى شهادة على ارثكم الغابوي؟ هلا اعتنيتم بي وحميتموني من الزوال والانقراض؟ ...
شجرة البلوط تلك ونظيراتها القليلات الاخريات المتبقيات اسفل السفح الشمالي يقدمن دروسا مجانية ثمينة عن الخصوصية البيئية لجبل السلوم في الاحقاب الغابرة. لولا بقائهن ، ما كان لاحد ان يدعي ان تلك الفصيلة من الاشجار كانت يوما ما عنصر من العناصر البيئة المكونة للغطاء النباتي للجبل عينه....
مستقبلا، كل الامل في تظافر الجهود من ذوي النيات الطيبة والعاملين بعشق بغية رد الاعتبار لمقدرات المنطقة والحفاظ عليها للاجيال القادمة...